التفسير الميسر للقران الكريم أجزاء..27



التفسير الميسر للقران الكريم أجزاء


الجزء 27

قالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ( 31 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ( 32 ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ( 33 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 )
قال إبراهيم عليه السلام, لملائكة الله: ما شأنكم وفيم أُرسلتم؟ قالوا: إن الله أرسلنا إلى قوم قد أجرموا لكفرهم بالله; لنهلكهم بحجارة من طين متحجِّر, معلَّمة عند ربك لهؤلاء المتجاوزين الحدَّ في الفجور والعصيان.
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 )
فأخرجنا مَن كان في قرية قوم لوط من أهل الإيمان.
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 )
فما وجدنا في تلك القرية غير بيت من المسلمين, وهو بيت لوط عليه السلام.
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 37 )
وتركنا في القرية المذكورة أثرًا من العذاب باقيًا علامة على قدرة الله تعالى وانتقامه من الكفرة, وذلك عبرة لمن يخافون عذاب الله المؤلم الموجع.
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 ) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 )
وفي إرسالنا موسى إلى فرعون وملئه بالآيات والمعجزات الظاهرة آية للذين يخافون العذاب الأليم. فأعْرَضَ فرعون مغترًّا بقوته وجانبه, وقال عن موسى: إنه ساحر أو مجنون.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 )
فأخذنا فرعون وجنوده, فطرحناهم في البحر, وهو آتٍ ما يلام عليه; بسبب كفره وجحوده وفجوره.
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 )
وفي شأن عاد وإهلاكهم آيات وعبر لمن تأمل, إذ أرسلنا عليهم الريح التي لا بركة فيها ولا تأتي بخير, ما تَدَعُ شيئًا مرَّت عليه إلا صيَّرته كالشيء البالي.
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ( 43 ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ( 44 )
وفي شأن ثمود وإهلاكهم آيات وعبر, إذ قيل لهم: انتفعوا بحياتكم حتى تنتهي آجالكم. فعصوا أمر ربهم, فأخذتهم صاعقة العذاب, وهم ينظرون إلى عقوبتهم بأعينهم.
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ( 45 )
فما أمكنهم الهرب ولا النهوض مما هم فيه من العذاب, وما كانوا منتصرين لأنفسهم.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 46 )
وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء, إنهم كانوا قومًا مخالفين لأمر الله, خارجين عن طاعته.
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 )
والسماء خلقناها وأتقناها, وجعلناها سَقْفًا للأرض بقوة وقدرة عظيمة, وإنا لموسعون لأرجائها وأنحائها.
وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 )
والأرض جعناها فراشًا للخلق للاستقرار عليها, فنعم الماهدون نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 49 )
ومن كل شيء من أجناس الموجودات خلقنا نوعين مختلفين; لكي تتذكروا قدرة الله, وتعتبروا.
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 50 )
ففروا- أيها الناس- من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به وبرسوله, واتباع أمره والعمل بطاعته, إني لكم نذير بيِّن الإنذار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر, فزع إلى الصلاة, وهذا فرار إلى الله.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 51 )
ولا تجعلوا مع الله معبودًا آخر, إني لكم من الله نذير بيِّن الإنذار.
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 52 )
كما كذبت قريش نبيَّها محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو شاعر أو ساحر أو مجنون, فعلت الأمم المكذبة رسلها من قبل قريش, فأحلَّ الله بهم نقمته.
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 )
أتواصى الأولون والآخرون بالتكذيب بالرسول حين قالوا ذلك جميعًا؟ بل هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم وأعمالهم بالكفر والطغيان, فقال متأخروهم ذلك, كما قاله متقدموهم.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ( 54 )
فأعرضْ - أيها الرسول- عن المشركين حتى يأتيك فيهم أمر الله, فما أنت بملوم من أحد, فقد بلَّغت ما أُرسلت به.
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 )
ومع إعراضك - أيها الرسول- عنهم, وعدم الالتفات إلى تخذيلهم, داوم على الدعوة إلى الله, وعلى وعظ من أُرسلتَ إليهم; فإن التذكير والموعظة ينتفع بهما أهل القلوب المؤمنة, وفيهما إقامة الحجة على المعرضين.
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ( 56 )
وما خلقت الجن والإنس وبعثت جميع الرسل إلا لغاية سامية, هي عبادتي وحدي دون مَن سواي.
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ( 57 )
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون, فأنا الرزاق المعطي. فهو سبحانه غير محتاج إلى الخلق, بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم, فهو خالقهم ورازقهم والغني عنهم.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 )
إن الله وحده هو الرزاق لخلقه, المتكفل بأقواتهم, ذو القوة المتين, لا يُقْهَر ولا يغالَب, فله القدرة والقوة كلها.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ( 59 )
فإن للذين ظلموا بتكذيبهم الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم نصيبًا من عذاب الله نازلا بهم مثل نصيب أصحابهم الذين مضَوْا من قبلهم, فلا يستعجلون بالعذاب, فهو آتيهم لا محالة.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 60 )
فهلاك وشقاء للذين كفروا بالله ورسوله من يومهم الذي يوعدون فيه بنزول العذاب بهم, وهو يوم القيامة.

سورة الطور
وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 )
أقسم الله بالطور, وهو الجبل الذي كلَّم الله سبحانه وتعالى موسى عليه, وبكتاب مكتوب, وهو القرآن في صحف منشورة، وبالبيت المعمور في السماء بالملائكة الكرام الذين يطوفون به دائمًا, وبالسقف المرفوع وهو السماء الدنيا, وبالبحر المسجور المملوء بالمياه.
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ( 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ( 10 )
إن عذاب ربك - أيها الرسول- بالكفار لَواقع، ليس له مِن مانع يمنعه حين وقوعه, يوم تتحرك السماء فيختلُّ نظامها وتضطرب أجزاؤها, وذلك عند نهاية الحياة الدنيا, وتزول الجبال عن أماكنها, وتسير كسير السحاب.
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ( 12 )
فهلاك في هذا اليوم واقع بالمكذبين الذين هم في خوض بالباطل يلعبون به, ويتخذون دينهم هزوًا ولعبًا.
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( 13 ) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 14 )
يوم يُدْفَع هؤلاء المكذبون دفعًا بعنف ومَهانة إلى نار جهنم، ويقال توبيخًا لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذِّبون.
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 )
أفسحر ما تشاهدونه من العذاب أم أنتم لا تنظرون؟ ذوقوا حرَّ هذه النار, فاصبروا على ألمها وشدتها, أو لا تصبروا على ذلك، فلن يُخَفَّف عنكم العذاب، ولن تخرجوا منها, سواء عليكم صبرتم أم لم تصبروا, إنما تُجزون ما كنتم تعملون في الدنيا.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 )
إن المتقين في جنات ونعيم عظيم, يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذِّ المختلفة, ونجَّاهم الله من عذاب النار.
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ( 20 )
كلوا طعامًا هنيئًا, واشربوا شرابًا سائغًا؛ جزاء بما عملتم من أعمال صالحة في الدنيا. وهم متكئون على سرر متقابلة, وزوَّجناهم بنساء بيض واسعات العيون حسانهنَّ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 )
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم في الإيمان, وألحقنا بهم ذريتهم في منزلتهم في الجنة, وإن لم يبلغوا عمل آبائهم; لتَقَرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيُجْمَع بينهم على أحسن الأحوال, وما نقصناهم شيئًا من ثواب أعمالهم. كل إنسان مرهون بعمله, لا يحمل ذنب غيره من الناس.
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ( 23 )
وزدناهم على ما ذُكر من النعيم فواكه ولحومًا مما يستطاب ويُشتهى، ومن هذا النعيم أنهم يتعاطَوْن في الجنة كأسًا من الخمر, يناول أحدهم صاحبه؛ ليتم بذلك سرورهم، وهذا الشراب مخالف لخمر الدنيا، فلا يزول به عقل صاحبه, ولا يحصل بسببه لغو، ولا كلام فيه إثم أو معصية.
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ( 24 )
ويطوف عليهم غلمان مُعَدُّون لخدمتهم, كأنهم في الصفاء والبياض والتناسق لؤلؤ مصون في أصدافه.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 25 ) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 26 ) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( 27 ) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ( 28 )
وأقبل أهل الجنة, يسأل بعضهم بعضًا عن عظيم ما هم فيه وسببه, قالوا: إنا كنا قبل في الدنيا- ونحن بين أهلينا- خائفين ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه يوم القيامة. فمنَّ الله علينا بالهداية والتوفيق، ووقانا عذاب سموم جهنم, وهو نارها وحرارتها. إنا كنا من قبلُ نضرع إليه وحده لا نشرك معه غيره أن يقينا عذاب السَّموم ويوصلنا إلى النعيم، فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا, إنه هو البَرُّ الرحيم. فمن بِره ورحمته إيانا أنالنا رضاه والجنة, ووقانا مِن سخطه والنار.
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ( 29 )
فذكِّر - أيها الرسول- مَن أُرسلت إليهم بالقرآن، فما أنت بإنعام الله عليك بالنبوة ورجاحة العقل بكاهن يخبر بالغيب دون علم، ولا مجنون لا يعقل ما يقول كما يَدَّعون.
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 )
أم يقول المشركون لك - أيها الرسول- : هو شاعر ننتظر به نزول الموت؟ قل لهم: انتظروا موتي فإني معكم من المنتظرين بكم العذاب، وسترون لمن تكون العاقبة.
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 32 )
بل أتأمر هؤلاء المكذبين عقولهم بهذا القول المتناقض ( ذلك أن صفات الكهانة والشعر والجنون لا يمكن اجتماعها في آن واحد ) ، بل هم قوم متجاوزون الحدَّ في الطغيان.
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 )
بل أيقول هؤلاء المشركون, اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه؟ بل هم لا يؤمنون, فلو آمنوا لم يقولوا ما قالوه.
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ( 34 )
فليأتوا بكلام مثل القرآن، إن كانوا صادقين- في زعمهم- أن محمدًا اختلقه.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 )
أخُلِق هؤلاء المشركون من غير خالق لهم وموجد, أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وكلا الأمرين باطل ومستحيل. وبهذا يتعيَّن أن الله سبحانه هو الذي خلقهم، وهو وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له.
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ( 36 )
أم خَلَقوا السموات والأرض على هذا الصنع البديع؟ بل هم لا يوقنون بعذاب الله, فهم مشركون.
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ( 37 )
أم عندهم خزائن ربك يتصرفون فيها, أم هم الجبارون المتسلطون على خلق الله بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الضعفاء.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 38 )
أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون فيه الوحي بأن الذي هم عليه حق؟ فليأت مَن يزعم أنه استمع ذلك بحجة بينة تصدِّق دعواه.
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( 39 )
ألِلهِ سبحانه البنات ولكم البنون كما تزعمون افتراء وكذبًا؟
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ( 40 )
أتسأل - أيها الرسول- هؤلاء المشركون أجرًا على تبليغ الرسالة, فهم في جهد ومشقة من التزام غرامة تطلبها منهم؟
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 41 )
أم عندهم علم الغيب فهم يكتبونه للناس ويخبرونهم به؟ ليس الأمر كذلك; فإنه لا يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله.
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ( 42 )
بل يريدون برسول الله وبالمؤمنين مكرًا، فالذين كفروا يرجع كيدهم ومكرهم على أنفسهم.
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 43 )
أم لهم معبود يستحق العبادة غير الله؟ تنزَّه وتعالى عما يشركون، فليس له شريك فى الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ( 44 )
وإن ير هؤلاء المشركون قطعًا من السماء ساقطًا عليهم عذابًا لهم لم ينتقلوا عما هم عليه من التكذيب, ولقالوا: هذا سحاب متراكم بعضه فوق بعض.
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ( 45 )
فدع - أيها الرسول- هؤلاء المشركين حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يُهْلكون، وهو يوم القيامة.
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 46 )
وفي ذلك اليوم لا يَدْفع عنهم كيدهم من عذاب الله شيئًا، ولا ينصرهم ناصر من عذاب الله.
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 47 )
وإن لهؤلاء الظلمة عذابًا يلقونه في الدنيا قبل عذاب يوم القيامة من القتل والسبي وعذاب البرزخ وغير ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( 49 )
واصبر - أيها الرسول- لحكم ربك وأمره فيما حَمَّلك من الرسالة، وعلى ما يلحقك من أذى قومك، فإنك بمرأى منا وحفظ واعتناء، وسبِّح بحمد ربك حين تقوم إلى الصلاة، وحين تقوم من نومك، ومن الليل فسبِّح بحمد ربك وعظِّمه, وصلِّ له، وافعل ذلك عند صلاة الصبح وقت إدبار النجوم. وفي هذه الآية إثبات لصفة العينين لله تعالى بما يليق به، دون تشبيه بخلقه أو تكييف لذاته, سبحانه وبحمده, كما ثبت ذلك بالسنة, وأجمع عليه سلف الأمة، واللفظ ورد هنا بصيغة الجمع للتعظيم.

سورة النجم
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ( 4 )
أقسم الله تعالى بالنجوم إذا غابت, ما حاد محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهداية والحق, وما خرج عن الرشاد, بل هو في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد, وليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه. ما القرآن وما السنة إلا وحي من الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 )
علَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم مَلَك شديد القوة, ذو منظر حسن, وهو جبريل عليه السلام, الذي ظهر واستوى على صورته الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم في الأفق الأعلى, وهو أفق الشمس عند مطلعها, ثم دنا جبريل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فزاد في القرب, فكان دنوُّه مقدار قوسين أو أقرب من ذلك. فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى بواسطة جبريل عليه السلام. ما كذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره.
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 ) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 ) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ( 18 )
أتُكذِّبون محمدًا صلى الله عليه وسلم, فتجادلونه على ما يراه ويشاهده من آيات ربه؟ ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته الحقيقية مرة أخرى عند سدرة المنتهى- شجرة نَبْق- وهي في السماء السابعة, ينتهي إليها ما يُعْرَج به من الأرض, وينتهي إليها ما يُهْبَط به من فوقها, عندها جنة المأوى التي وُعِد بها المتقون. إذ يغشى السدرة من أمر الله شيء عظيم, لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم على صفة عظيمة من الثبات والطاعة, فما مال بصره يمينًا ولا شمالا ولا جاوز ما أُمِر برؤيته. لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من آيات ربه الكبرى الدالة على قدرة الله وعظمته من الجنة والنار وغير ذلك.
أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ( 20 )
أفرأيتم- أيها المشركون- هذه الآلهة التي تعبدونها: اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى, هل نفعت أو ضرَّت حتى تكون شركاء لله؟
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 )
أتجعلون لكم الذَّكر الذي ترضونه, وتجعلون لله بزعمكم الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم؟ تلك إذًا قسمة جائرة. ما هذه الأوثان إلا أسماء ليس لها من أوصاف الكمال شيء, إنما هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى أهوائكم الباطلة, ما أنزل الله بها مِن حجة تصدق دعواكم فيها. ما يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن, وهوى أنفسهم المنحرفة عن الفطرة السليمة, ولقد جاءهم من ربهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم, ما فيه هدايتهم, فما انتفعوا به.
أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ( 24 ) فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى ( 25 )
ليس للإنسان ما تمناه من شفاعة هذه المعبودات أو غيرها مما تهواه نفسه, فلله أمر الدنيا والآخرة.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ( 26 )
وكثير من الملائكة في السموات مع علوِّ منزلتهم, لا تنفع شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لهم بالشفاعة, ويرضى عن المشفوع له.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى ( 27 ) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ( 28 )
إن الذين لا يصدِّقون بالحياة الآخرة من كفار العرب ولا يعملون لها ليسمُّون الملائكة تسمية الإناث؛ لاعتقادهم جهلا أن الملائكة إناث, وأنهم بنات الله. وما لهم بذلك من علم صحيح يصدِّق ما قالوه, ما يتبعون إلا الظن الذي لا يجدي شيئًا, ولا يقوم أبدًا مقام الحق.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( 29 ) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( 30 )
فأعْرِضْ عمَّن تولى عن ذكرنا, وهو القرآن, ولم يُرِدْ إلا الحياة الدنيا. ذلك الذي هم عليه هو منتهى علمهم وغايتهم. إن ربك هو أعلم بمن حادَ عن طريق الهدى, وهو أعلم بمن اهتدى وسلك طريق الإسلام. وفي هذا إنذار شديد للعصاة المعرضين عن العمل بكتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، المؤثرين لهوى النفس وحظوظ الدنيا على الآخرة.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ( 31 ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( 32 )
والله سبحانه وتعالى ملك ما في السموات وما في الأرض؛ ليجزي الذين أساءوا بعقابهم على ما عملوا من السوء, ويجزي الذي أحسنوا بالجنة, وهم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب والفواحش إلا اللمم, وهي الذنوب الصغار التي لا يُصِرُّ صاحبها عليها, أو يلمُّ بها العبد على وجه الندرة, فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات, يغفرها الله لهم ويسترها عليهم, إن ربك واسع المغفرة, هو أعلم بأحوالكم حين خلق أباكم آدم من تراب, وحين أنتم أجنَّة في بطون أمهاتكم, فلا تزكُّوا أنفسكم فتمدحوها وتَصِفُوها بالتقوى, هو أعلم بمن اتقى عقابه فاجتنب معاصيه من عباده.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ( 34 )
أفرأيت - أيها الرسول- الذي أعرض عن طاعة الله وأعطى قليلا مِن ماله, ثم توقف عن العطاء وقطع معروفه؟
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ( 35 )
أعند هذا الذي قطع عطاءه علم الغيب أنه سينفَد ما في يده حتى أمسك معروفه, فهو يرى ذلك عِيانًا؟ ليس الأمر كذلك, وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة; بخلا وشُحًّا.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 )
أم لم يُخَبَّر بما جاء في أسفار التوراة وصحف إبراهيم الذي وفَّى ما أُمر به وبلَّغه؟
أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( 38 ) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى ( 39 )
أنه لا تؤخذ نفس بمأثم غيرها، ووزرها لا يحمله عنها أحد, وأنه لا يحصل للإنسان من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه بسعيه.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( 40 )
وأن سعيه سوف يُرى في الآخرة, فيميَّز حَسَنه من سيئه؛ تشريفًا للمحسن وتوبيخًا للمسيء.
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى ( 41 ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ( 42 )
ثم يُجزى الإنسان على سعيه الجزاء المستكمل لجميع عمله, وأنَّ إلى ربك - أيها الرسول- انتهاء جميع خلقه يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( 43 )
وأنه سبحانه وتعالى أضحك مَن شاء في الدنيا بأن سرَّه, وأبكى من شاء بأن غَمَّه.
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 )
وأنه سبحانه أمات مَن أراد موته مِن خلقه, وأحيا مَن أراد حياته منهم, فهو المتفرِّد سبحانه بالإحياء والإماتة.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 45 ) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ( 46 )
وأنه خلق الزوجين: الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان, من نطفة تُصَبُّ في الرحم.
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى ( 47 )
وأن على ربك - أيها الرسول- إعادة خلقهم بعد مماتهم, وهي النشأة الأخرى يوم القيامة.
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ( 48 )
وأنه هو أغنى مَن شاء مِن خلقه بالمال, وملَّكه لهم وأرضاهم به.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ( 49 )
وأنه سبحانه وتعالى هو رب الشِّعْرى, وهو نجم مضيء, كان بعض أهل الجاهلية يعبدونه من دون الله.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى ( 50 ) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( 54 )
وأنه سبحانه وتعالى أهلك عادًا الأولى, وهم قوم هود, وأهلك ثمود, وهم قوم صالح, فلم يُبْقِ منهم أحدًا, وأهلك قوم نوح قبلُ. هؤلاء كانوا أشد تمردًا وأعظم كفرًا من الذين جاؤوا من بعدهم. ومدائن قوم لوط قلبها الله عليهم, وجعل عاليها سافلها, فألبسها ما ألبسها من الحجارة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ( 55 )
فبأيِّ نعم ربك عليك- أيها الإنسان المكذب- تَشُك؟
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى ( 56 )
هذا محمد صلى الله عليه وسلم, نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله, فليس ببدع من الرسل.
أَزِفَتِ الآزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ( 58 )
قربت القيامة ودنا وقتها, لا يدفعها إذًا من دون الله أحد, ولا يَطَّلِع على وقت وقوعها إلا الله.
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 )
أفمِن هذا القرآن تعجبون - أيها المشركون- من أن يكون صحيحًا, وتضحكون منه سخرية واستهزاءً, ولا تبكون خوفًا من وعيده, وأنتم لاهون معرضون عنه؟ فاسجدوا لله وأخلصوا العبادة له وحده, وسلِّموا له أموركم.

سورة القمر
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 )
دنت القيامة, وانفلق القمر فلقتين, حين سأل كفار « مكة » النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية, فدعا الله, فأراهم تلك الآية.
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ( 2 )
وإن ير المشركون دليلا وبرهانًا على صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، يُعرضوا عن الإيمان به وتصديقه مكذبين منكرين, ويقولوا بعد ظهور الدليل: هذا سحر باطل ذاهب مضمحل لا دوام له.
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ( 3 )
وكذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ضلالتهم وما دعتهم إليه أهواؤهم من التكذيب, وكلُّ أمر من خير أو شر واقع بأهله يوم القيامة عند ظهور الثواب والعقاب.
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 )
ولقد جاء كفار قريش من أنباء الأمم المكذبة برسلها, وما حلَّ بها من العذاب, ما فيه كفاية لردعهم عن كفرهم وضلالهم.
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 )
هذا القرآن الذي جاءهم حكمة عظيمة بالغة غايتها, فأي شيء تغني النذر عن قوم أعرضوا وكذَّبوا بها؟
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ( 6 )
فأعرض - أيها الرسول- عنهم, وانتظر بهم يومًا عظيمًا. يوم يدعو الملك بنفخه في « القرن » إلى أمر فظيع منكر, وهو موقف الحساب.
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ( 7 ) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 )
ذليلة أبصارهم يخرجون من القبور كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم للحساب جرادٌ منتشر في الآفاق, مسرعين إلى ما دُعُوا إليه, يقول الكافرون: هذا يوم عسر شديد الهول.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ( 9 )
كذَّبت قبل قومك - أيها الرسول- قوم نوح فكذَّبوا عبدنا نوحًا, وقالوا: هو مجنون, وانتهروه متوعدين إياه بأنواع الأذى, إن لم ينته عن دعوته.
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ( 10 )
فدعا نوح ربه أنِّي ضعيف عن مقاومة هؤلاء, فانتصر لي بعقاب من عندك على كفرهم بك.
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ( 11 ) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( 12 )
فأجبنا دعاءه, ففتحنا أبواب السماء بماء كثير متدفق, وشققنا الأرض عيونًا متفجرة بالماء, فالتقى ماء السماء وماء الأرض على إهلاكهم الذي قدَّره الله لهم؛ جزاء شركهم.
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ( 13 ) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ( 14 )
وحملنا نوحًا ومَن معه على سفينة ذات ألواح ومسامير شُدَّت بها, تجري بمرأى منا وحفظ, وأغرقنا المكذبين؛ جزاء لهم على كفرهم وانتصارًا لنوح عليه السلام. وفي هذا دليل على إثبات صفة العينين لله سبحانه وتعالى, كما يليق به.
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 15 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 16 )
ولقد أبقينا قصة نوح مع قومه عبرة ودليلا على قدرتنا لمن بعد نوح ؛ ليعتبروا ويتعظوا بما حلَّ بهذه الأمة التي كفرت بربها, فهل من متعظ يتعظ؟ فكيف كان عذابي ونذري لمن كفر بي وكذب رسلي, ولم يتعظ بما جاءت به؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 17 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 18 )
كذبت عاد هودًا فعاقبناهم, فكيف كان عذابي لهم على كفرهم, ونذري على تكذيب رسولهم, وعدم الإيمان به؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ( 19 ) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ( 20 )
إنَّا أرسلنا عليهم ريحًا شديدة البرد, في يوم شؤم مستمر عليهم بالعذاب والهلاك, تقتلع الناس من مواضعهم على الأرض فترمي بهم على رؤوسهم, فتدق أعناقهم, ويفصل رؤوسهم عن أجسادهم, فتتركهم كالنخل المنقلع من أصله.
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 21 )
فكيف كان عذابي ونذري لمن كفر بي, وكذَّب رسلي ولم يؤمن بهم؟ إنه كان عظيمًا مؤلمًا.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 22 )
ولقد سَهَّلنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم وللتدبر, لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل من متعظ به؟ وفي هذا حثٌّ على الاستكثار من تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( 23 ) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 24 )
كذبت ثمود - وهم قوم صالح- بالآيات التي أُنذرِوا بها, فقالوا: أبشرًا منا واحدًا نتبعه نحن الجماعة الكثيرة وهو واحد؟ إنا إذا لفي بُعْدٍ عن الصواب وجنون.
أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ( 25 ) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ ( 26 )
أأُنزل عليه الوحي وخُصَّ بالنبوة مِن بيننا, وهو واحد منا؟ بل هو كثير الكذب والتجبر. سَيَرون عند نزول العذاب بهم في الدنيا ويوم القيامة مَنِ الكذاب المتجبر؟
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ( 27 )
إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الصخرة؛ اختبارًا لهم, فانتظر- يا صالح- ما يحلُّ بهم من العذاب, واصطبر على دعوتك إياهم وأذاهم لك.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ( 28 )
وأخبرهم أن الماء مقسوم بين قومك والناقة: للناقة يوم, ولهم يوم, كل شِرْب يحضره مَن كانت قسمته, ويُحظر على من ليس بقسمة له.
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ( 29 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 30 )
فنادوا صاحبهم بالحض على عقرها, فتناول الناقة بيده, فنحرها فعاقَبْتُهم, فكيف كان عقابي لهم على كفرهم, وإنذاري لمن عصى رسلي؟
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( 31 )
إنا أرسلنا عليهم جبريل, فصاح بهم صيحة واحدة, فبادوا عن آخرهم, فكانوا كالزرع اليابس الذي يُجْعل حِظارًا على الإبل والمواشي.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 32 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر لمن أراد أن يتذكر ويعتبر, فهل مِن متعظ به؟
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ( 33 )
كذَّبت قوم لوط بآيات الله التي أنذِروا بها.
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ( 34 ) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ( 35 )
إنا أرسلنا عليهم حجارةً إلا آل لوط, نجَّيناهم من العذاب في آخر الليل, نعمة من عندنا عليهم, كما أثبنا لوطًا وآله وأنعمنا عليهم, فأنجيناهم مِن عذابنا, نُثيب مَن آمن بنا وشكرنا.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ( 36 )
ولقد خوَّف لوط قومه بأس الله وعذابه, فلم يسمعوا له, بل شكُّوا في ذلك, وكذَّبوه.
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 37 )
ولقد طلبوا منه أن يفعلوا الفاحشة بضيوفه من الملائكة, فطمسنا أعينهم فلم يُبصروا شيئًا, فقيل لهم: ذوقوا عذابي وإنذاري الذي أنذركم به لوط عليه السلام.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ( 38 ) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 39 )
ولقد جاءهم وقت الصباح عذاب دائم استقر فيهم حتى يُفضي بهم إلى عذاب الآخرة, وذلك العذاب هو رجمهم بالحجارة وقلب قُراهم وجعل أعلاها أسفلها, فقيل لهم: ذوقوا عذابي الذي أنزلته بكم ؛ لكفركم وتكذيبكم, وإنذاري الذي أنذركم به لوط عليه السلام.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 40 )
ولقد سَهَّلْنا لفظ القرآن للتلاوة والحفظ, ومعانيه للفهم والتدبر لمن أراد أن يتذكر, فهل مِن متعظ به؟
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 )
ولقد جاء أتباعَ فرعون وقومَه إنذارُنا بالعقوبة لهم على كفرهم.
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ( 42 )
كذَّبوا بأدلتنا كلها الدالة على وحدانيتنا ونبوة أنبيائنا, فعاقبناهم بالعذاب عقوبة عزيز لا يغالَب, مقتدر على ما يشاء.
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ( 43 )
أكفاركم- يا معشر قريش- خير مِنَ الذين تقدَّم ذكرهم ممن هلكوا بسبب تكذيبهم, أم لكم براءة مِن عقاب الله في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة؟
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ( 44 )
بل أيقول كفار « مكة » : نحن أولو حزم ورأي وأمرنا مجتمع, فنحن جماعة منتصرة لا يغلبنا من أرادنا بسوء؟
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 )
سيهزم جمع كفار « مكة » أمام المؤمنين, ويولُّون الأدبار, وقد حدث هذا يوم « بدر » .
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ( 46 )
والساعة موعدهم الذي يُجازون فيه بما يستحقون, والساعة أعظم وأقسى مما لحقهم من العذاب يوم « بدر » .
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ( 47 ) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ( 48 )
إن المجرمين في تيه عن الحق وعناء وعذاب. يوم يُجرُّون في النار على وجوههم, ويقال لهم: ذوقوا شدة عذاب جهنم.
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( 49 )
إنَّا كل شيء خلقناه بمقدار قدرناه وقضيناه, وسبق علمنا به، وكتابتنا له في اللوح المحفوظ.
وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( 50 )
وما أمرنا للشيء إذا أردناه إلا أن نقول قولة واحدة وهي « كن » , فيكون كلمح البصر, لا يتأخر طرفة عين.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ( 51 )
ولقد أهلكنا أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية, فهل من متعظ بما حلَّ بهم من النَّكال والعذاب؟
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ( 52 )
وكل شيء فعله أشباهكم الماضون من خير أو شرٍّ مكتوب في الكتب التي كتبتها الحفظة.
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ( 53 )
وكل صغير وكبير من أعمالهم مُسَطَّر في صحائفهم, وسيجازون به.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ( 54 )
إن المتقين في بساتين عظيمة, وأنهار واسعة يوم القيامة.
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ( 55 )
في مجلس حق, لا لغو فيه ولا تأثيم عند الله المَلِك العظيم, الخالق للأشياء كلها, المقتدر على كل شيء تبارك وتعالى.

سورة الرحمن
الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 )
الرحمن علَّم الإنسان القرآن؛ بتيسير تلاوته وحفظه وفهم معانيه.
خَلَقَ الإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 )
خلق الإنسان, علَّمه البيان عمَّا في نفسه تمييزًا له عن غيره.
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( 5 )
الشمس والقمر يجريان متعاقبَين بحساب متقن, لا يختلف ولا يضطرب.
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 )
والنجم الذي في السماء وأشجار الأرض, تعرف ربها وتسجد له, وتنقاد لما سخرَّها له مِن مصالح عباده ومنافعهم.
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 )
والسماء رفعها فوق الأرض, ووضع في الأرض العدل الذي أمر به وشرعه لعباده.
أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ( 8 ) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 )
لئلا تعتدوا وتخونوا مَن وَزَنتم له, وأقيموا الوزن بالعدل, ولا تُنْقِصوا الميزان إذا وَزَنتم للناس.
وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ( 11 ) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 )
والأرض وضعها ومهَّدها؛ ليستقر عليها الخلق. فيها فاكهة النخل ذات الأوعية التي يكون منها الثمر, وفيها الحب ذو القشر؛ رزقًا لكم ولأنعامكم, وفيها كل نبت طيب الرائحة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 13 )
فبأي نِعَم ربكما الدينية والدنيوية- يا معشر الجن والإنس- تكذِّبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة, فكلما مر بهذه الآية, قالوا: « ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب, فلك الحمد » , وهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه, أن يُقرَّ بها, ويشكر الله ويحمده عليها.
خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( 15 )
خلق أبا الإنسان, وهو آدم من طين يابس كالفَخَّار, وخلق إبليس, وهو من الجن من لهب النار المختلط بعضه ببعض.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 )
فبأي نِعَم ربكما- يا معشر الإنس والجن- تكذِّبان؟
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 )
هو سبحانه وتعالى ربُّ مشرقَي الشمس في الشتاء والصيف، ورب مغربَيها فيهما, فالجميع تحت تدبيره وربوبيته.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ( 20 )
خلط الله ماء البحرين - العذب والملح- يلتقيان. بينهما حاجز, فلا يطغى أحدهما على الآخر, ويذهب بخصائصه, بل يبقى العذب عذبًا, والملح ملحًا مع تلاقيهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 )
يخرج من البحرين بقدرة الله اللؤلؤ والمَرْجان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ( 24 )
وله سبحانه وتعالى السفن الضخمة التي تجري في البحر بمنافع الناس, رافعة قلاعها وأشرعتها كالجبال.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 27 )
كل مَن على وجه الأرض مِن الخلق هالك, ويبقى وجه ربك ذو العظمة والكبرياء والفضل والجود. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى بما يليق به سبحانه, دون تشبيه ولا تكييف.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ( 29 )
يسأله مَن في السموات والأرض حاجاتهم, فلا غنى لأحد منهم عنه سبحانه. كل يوم هو في شأن : يُعِزُّ ويُذِلُّ, ويعطي ويَمْنع.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 30 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ ( 31 )
سنفرُغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكما التي عملتموهما في الدنيا, أيها الثقلان- الإنس والجن- , فنعاقب أهل المعاصي, ونُثيب أهل الطاعة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 32 )
فبأيِّ نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ( 33 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 34 )
يا معشر الجن والإنس, إن قَدَرْتم على النفاذ من أمر الله وحكمه هاربين من أطراف السموات والأرض فافعلوا, ولستم قادرين على ذلك إلا بقوة وحجة, وأمر من الله تعالى ( وأنَّى لكم ذلك وأنتم لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا؟ ) . فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ ( 35 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 36 )
يُرْسَل عليكم لهب من نار, ونحاس مذاب يُصَبُّ على رؤوسكم, فلا ينصر بعضكم بعضًا يا معشر الجن والإنس. فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ( 37 )
فإذا انشقت السماء وتفطرت يوم القيامة, فكانت حمراء كلون الورد, وكالزيت المغلي والرصاص المذاب؛ من شدة الأمر وهول يوم القيامة.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 38 )
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ ( 39 )
ففي ذلك اليوم لا تسأل الملائكة المجرمين من الإنس والجن عن ذنوبهم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 40 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ( 41 )
تَعرِف الملائكة المجرمين بعلاماتهم, فتأخذهم بمقدمة رؤوسهم وبأقدامهم, فترميهم في النار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 42 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ( 43 ) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ( 44 )
يقال لهؤلاء المجرمين - توبيخًا وتحقيرًا لهم- : هذه جهنم التي يكذِّب بها المجرمون في الدنيا: تارة يُعذَّبون في الجحيم, وتارة يُسقون من الحميم, وهو شراب بلغ منتهى الحرارة, يقطِّع الأمعاء والأحشاء.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 45 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ( 46 )
ولمن اتقى الله من عباده من الإنس والجن, فخاف مقامه بين يديه, فأطاعه, وترك معاصيه, جنتان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 47 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ( 48 )
الجنتان ذواتا أغصان نضرة من الفواكه والثمار.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 49 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ( 50 )
في هاتين الجنتين عينان من الماء تجريان خلالهما.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 51 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ( 52 )
في هاتين الجنتين من كل نوع من الفواكه صنفان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 53 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ( 54 )
وللذين خافوا مقام ربهم جنتان يتنعمون فيهما, متكئين على فرش مبطَّنة من غليظ الديباج, وثمر الجنتين قريب إليهم.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 55 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 56 )
في هذه الفرش زوجات قاصرات أبصارهن على أزواجهن, لا ينظرن إلى غيرهم متعلقات بهم, لم يطأهن إنس قبلهم ولا جان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 57 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ( 58 )
كأن هؤلاء الزوجاتِ من الحور الياقوتُ والمَرْجانُ في صفائهن وجمالهن.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 59 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ ( 60 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 61 )
هل جزاء مَن أحسن بعمله في الدنيا إلا الإحسان إليه بالجنة في الآخرة؟ فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( 62 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 63 )
ومن دون الجنتين السابقتين جنتان أخريان. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 65 )
هاتان الجنتان خضراوان, قد اشتدَّت خضرتهما حتى مالت إلى السواد. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ( 66 ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 67 )
فيهما عينان فوَّارتان بالماء لا تنقطعان. فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ( 68 )
في هاتين الجنتين أنواع الفواكه ونخل ورمان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 69 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ( 70 )
في هذه الجنان الأربع زوجات طيبات الأخلاق حسان الوجوه.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 71 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ( 72 )
حور مستورات مصونات في الخيام.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 73 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ( 74 )
لم يطأ هؤلاء الحور إنس قبل أزواجهن ولا جان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 75 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ( 76 )
متكئين على وسائد ذوات أغطية خضر وفرش حسان.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 77 )
فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ( 78 )
تكاثرت بركة اسم ربك وكثر خيره, ذي الجلال الباهر, والمجد الكامل, والإكرام لأوليائه.

سورة الواقعة
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 )
إذا قامت القيامة, ليس لقيامها أحد يكذِّب به, هي خافضة لأعداء الله في النار, رافعة لأوليائه في الجنة.
إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ( 6 )
إذا حُرِّكت الأرض تحريكًا شديدًا, وفُتِّتت الجبال تفتيتًا دقيقًا, فصارت غبارًا متطايرًا في الجو قد ذَرَتْه الريح.
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً ( 7 )
وكنتم- أيها الخلق- أصنافًا ثلاثة:
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 9 )
فأصحاب اليمين, أهل المنزلة العالية, ما أعظم مكانتهم !! وأصحاب الشمال, أهل المنزلة الدنيئة, ما أسوأ حالهم !!
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( 10 ) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( 11 ) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 12 )
والسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الآخرة, أولئك هم المقربون عند الله, يُدْخلهم ربهم في جنات النعيم.
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 13 ) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 14 ) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ( 15 ) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ( 16 )
يدخلها جماعة كثيرة من صدر هذه الأمة, وغيرهم من الأمم الأخرى, وقليل من آخر هذه الأمة على سرر منسوجة بالذهب, متكئين عليها يقابل بعضهم بعضًا.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ( 17 ) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ( 18 ) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ ( 19 )
يطوف عليهم لخدمتهم غلمان لا يهرمون ولا يموتون, بأقداح وأباريق وكأس من عين خمر جارية في الجنة, لا تُصَدَّعُ منها رؤوسهم, ولا تذهب بعقولهم.
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ( 20 ) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ( 21 ) وَحُورٌ عِينٌ ( 22 ) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ( 23 ) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 24 )
ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه, وبلحم طير ممَّا ترغب فيه نفوسهم. ولهم نساء ذوات عيون واسعة, كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاءً وجمالا؛ جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.
لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا ( 25 ) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا ( 26 )
لا يسمعون في الجنة باطلا ولا ما يتأثمون بسماعه, إلا قولا سالمًا من هذه العيوب, وتسليم بعضهم على بعض.
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ( 27 ) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ( 28 ) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ( 29 ) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( 30 ) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ ( 31 ) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ( 32 ) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( 33 ) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ( 34 )
وأصحاب اليمين, ما أعظم مكانتهم وجزاءهم!! هم في سِدْر لا شوك فيه, وموز متراكب بعضه على بعض, وظلٍّ دائم لا يزول, وماء جار لا ينقطع, وفاكهة كثيرة لا تنفَد ولا تنقطع عنهم, ولا يمنعهم منها مانع, وفرشٍ مرفوعة على السرر.
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ( 35 ) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ( 36 ) عُرُبًا أَتْرَابًا ( 37 ) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 38 )
إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا, نشأة كاملة لا تقبل الفناء, فجعلناهن أبكارًا, متحببات إلى أزواجهن, في سنٍّ واحدة, خلقناهن لأصحاب اليمين.
ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ ( 40 )
وهم جماعة كثيرة من الأولين, وجماعة كثيرة من الآخرين.
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ( 41 ) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ( 42 ) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ( 43 ) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ( 44 )
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم !! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم, وماء حار يغلي, وظلٍّ من دخان شديد السواد, لا بارد المنزل, ولا كريم المنظر.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ ( 45 )
إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام, معرِضين عما جاءتهم به الرسل.
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ( 46 )
وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصيته, ولا ينوون التوبة من ذلك.
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( 47 )
وكانوا يقولون إنكارًا للبعث: أنُبعث إذا متنا وصرنا ترابًا وعظامًا بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له.
أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ ( 48 )
أنُبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا, قد تفرَّق في الأرض؟
قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ ( 49 ) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ( 50 )
قل لهم - أيها الرسول- : إن الأولين والآخرين من بني آدم سيُجمَعون في يوم مؤقت بوقت محدد, وهو يوم القيامة.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ( 51 ) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ ( 52 ) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ( 53 ) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ( 54 ) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ( 55 )
ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده, لآكلون من شجر من زقوم, وهو من أقبح الشجر, فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع, فشاربون عليه ماء متناهيًا في الحرارة لا يَرْوي ظمأ, فشاربون منه بكثرة, كشرب الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها.
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ( 56 )
هذا الذي يلقونه من العذاب هو ما أُعدَّ لهم من الزاد يوم القيامة. وفي هذا توبيخ لهم وتهكُّم بهم.
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ ( 57 )
نحن خلقناكم- أيها الناس- ولم تكونوا شيئًا, فهلا تصدِّقون بالبعث.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ( 58 ) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( 59 )
أفرأيتم النُّطَف التي تقذفونها في أرحام نسائكم, هل أنتم تخلقون ذلك بشرًا أم نحن الخالقون؟
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 60 ) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ( 61 )
نحن قَدَّرنا بينكم الموت, وما نحن بعاجزين عن أن نغيِّر خلقكم يوم القيامة, وننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات والأحوال.
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ ( 62 )
ولقد علمتم أن الله أنشأكم النشأة الأولى ولم تكونوا شيئًا, فهلا تذكَّرون قدرة الله على إنشائكم مرة أخرى.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ( 63 ) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ( 64 ) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( 65 ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 67 )
أفرأيتم الحرث الذي تحرثونه هل أنتم تُنبتونه في الأرض؟ بل نحن نُقِرُّ قراره وننبته في الأرض. لو نشاء لجعلنا ذلك الزرع هشيمًا, لا يُنتفع به في مطعم, فأصبحتم تتعجبون مما نزل بزرعكم, وتقولون: إنا لخاسرون معذَّبون, بل نحن محرومون من الرزق.
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ( 68 ) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ( 69 )
أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحْيَوا به, أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض, أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ( 70 )
لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة, لا يُنتفع به في شرب ولا زرع, فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( 71 ) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ( 72 )
أفرأيتم النار التي توقدون, أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار, أم نحن الموجدون لها؟
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ( 73 )
نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 74 )
فنزِّه - أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات, كثير الإحسان والخيرات.
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 )
أقسم الله تعالى بمساقط النجوم في مغاربها في السماء, وإنه لَقَسم لو تعلمون قَدَره عظيم.
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( 78 ) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 )
إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لقرآن عظيم المنافع, كثير الخير, غزير العلم, في كتاب مَصُون مستور عن أعين الخلق, وهو الكتاب الذي بأيدي الملائكة. لا يَمَسُّ القرآن إلا الملائكة الكرام الذين طهرهم الله من الآفات والذنوب, ولا يَمَسُّه أيضًا إلا المتطهرون من الشرك والجنابة والحدث.
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 )
وهذا القرآن الكريم منزل من رب العالمين, فهو الحق الذي لا مرية فيه.
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ( 81 )
أفبهذا القرآن أنتم - أيها المشركون- مكذِّبون؟
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ( 82 )
وتجعلون شكركم لنعم الله عليكم أنكم تكذِّبون بها وتكفرون؟ وفي هذا إنكار على من يتهاون بأمر القرآن ولا يبالي بدعوته.
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( 83 ) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ( 84 ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ( 85 )
فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع, وأنتم حضور تنظرون إليه, أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك, ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا, ولكنكم لا ترونهم.
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( 86 ) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 87 )
وهل تستطيعون إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم أن تعيدوا الروح إلى الجسد, إن كنتم صادقين؟ لن ترجعوها.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 88 ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ( 89 )
فأما إن كان الميت من السابقين المقربين, فله عند موته الرحمة الواسعة والفرح وما تطيب به نفسه, وله جنة النعيم في الآخرة.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 90 ) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 91 )
وأما إن كان الميت من أصحاب اليمين, فيقال له: سلامة لك وأمن; لكونك من أصحاب اليمين.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ( 93 ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( 94 )
وأما إن كان الميت من المكذبين بالبعث, الضالين عن الهدى, فله ضيافة من شراب جهنم المغلي المتناهي الحرارة, والنار يحرق بها, ويقاسي عذابها الشديد.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( 95 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 96 )
إن هذا الذي قصصناه عليك - أيها الرسول- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه, فسبِّح باسم ربك العظيم, ونزِّهه عما يقول الظالمون والجاحدون, تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.

سورة الحديد
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 )
نزَّه الله عن السوء كلُّ ما في السموات والأرض من جميع مخلوفاته, وهو العزيز على خلقه, الحكيم في تدبير أمورهم.
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 2 )
له ملك السموات والأرض وما فيهما, فهو المالك المتصرف في خلقه, يحيي ويميت, وهو على كل شيء قدير, لا يتعذَّر عليه شيء أراده, فما شاءه كان, وما لم يشأ لم يكن.
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 )
هو الأول الذي ليس قبله شيء, والآخر الذي ليس بعده شيء, والظاهر الذي ليس فوقه شيء, والباطن الذي ليس دونه شيء, ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وهو بكل شيء عليم.
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 )
هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى - أي علا وارتفع- على عرشه فوق جميع خلقه استواء يليق بجلاله, يعلم ما يدخل في الأرض من حب ومطر وغير ذلك, وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار, وما ينزل من السماء من مطر وغيره, وما يعرج فيها من الملائكة والأعمال, وهو سبحانه معكم بعلمه أينما كنتم, والله بصير بأعمالكم التي تعملونها, وسيجازيكم عليها.
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 5 )
له ملك السموات والأرض, وإلى الله مصير أمور الخلائق في الآخرة, وسيجازيهم على أعمالهم.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 6 )
يُدْخِل ما نقص من ساعات الليل في النهار فيزيد النهار, ويُدْخِل ما نقص من ساعات النهار في الليل فيزيد الليل, وهو سبحانه عليم بما في صدور خلقه.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 )
آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, وأنفقوا مما رزقكم الله من المال واستخلفكم فيه, فالذين آمنوا منكم أيها الناس, وأنفقوا من مالهم, لهم ثواب عظيم.
وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 )
وأيُّ عذر لكم في أن لا تصدقوا بوحدانية الله وتعملوا بشرعه, والرسول يدعوكم إلى ذلك, وقد أخذ الله ميثاقكم على ذلك, إن كنتم مؤمنين بالله خالقكم؟
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 9 )
هو الذي ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات مفصلات واضحات من القرآن؛ ليخرجكم بذلك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان, إن الله بكم في إخراجكم من الظلمات إلى النور لَيَرْحمكم رحمة واسعة في عاجلكم وآجلكم، فيجازيكم أحسن الجزاء.
وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 )
وأيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ ولله ميراث السموات والأرض يرث كلَّ ما فيهما, ولا يبقى أحد مالكًا لشيء فيهما. لا يستوي في الأجر والمثوبة منكم مَن أنفق من قبل فتح « مكة » وقاتل الكفار, أولئك أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا في سبيل الله من بعد الفتح وقاتلوا الكفار, وكلا من الفريقين وعد الله الجنة, والله بأعمالكم خبير لا يخفى عليه شيء منها, وسيجازيكم عليها.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 11 )
من ذا الذي ينفق في سبيل الله محتسبًا من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى, فيضاعف له ربه الأجر والثواب, وله جزاء كريم, وهو الجنة؟
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 )
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم على الصراط بين أيديهم وعن أيمانهم, بقدر أعمالهم, ويقال لهم: بشراكم اليوم دخول جنات واسعة تجري من تحت أشجارها الأنهار, لا تخرجون منها أبدًا, ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لكم في الآخرة.
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( 13 )
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا, وهم على الصراط: انتظرونا نستضئْ من نوركم, فتقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم فاطلبوا نورًا ( سخرية منهم ) , فَفُصِل بينهم بسور له باب, باطنه مما يلي المؤمنين فيه الرحمة, وظاهره مما يلي المنافقين من جهته العذاب.
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 14 )
ينادي المنافقون المؤمنين قائلين: ألم نكن معكم في الدنيا, نؤدي شعائر الدين مثلكم؟ قال المؤمنون لهم: بلى قد كنتم معنا في الظاهر, ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق والمعاصي, وتربصتم بالنبي الموت وبالمؤمنين الدوائر, وشككتم في البعث بعد الموت, وخدعتكم أمانيكم الباطلة, وبقيتم على ذلك حتى جاءكم الموت وخدعكم بالله الشيطان.
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 15 )
فاليوم لا يُقبل من أحد منكم أيها المنافقون عوض؛ ليفتدي به من عذاب الله, ولا من الذين كفروا بالله ورسوله, مصيركم جميعًا النار, هي أولى بكم من كل منزل, وبئس المصير هي.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 16 )
ألم يحن الوقت للذين صدَّقوا الله ورسوله واتَّبَعوا هديه, أن تلين قلوبهم عند ذكر الله وسماع القرآن, ولا يكونوا في قسوة القلوب كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم- من اليهود والنصارى- الذين طال عليهم الزمان فبدَّلوا كلام الله, فقست قلوبهم, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله؟ وفي الآية الحث على الرقة والخشوع لله سبحانه عند سماع ما أنزله من الكتاب والحكمة, والحذر من التشبه باليهود والنصارى, في قسوة قلوبهم, وخروجهم عن طاعة الله.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 17 )
اعلموا أن الله سبحانه وتعالى يحيي الأرض بالمطر بعد موتها, فتُخرِج النبات, فكذلك الله قادر على إحياء الموتى يوم القيامة, وهو القادر على تليين القلوب بعد قسوتها. قد بينَّا لكم دلائل قدرتنا؛ لعلكم تعقلونها فتتعظوا.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 18 )
إن المتصدتقين من أموالهم والمتصدقات, وأنفقوا في سبيل الله نفقات طيبة بها نفوسهم؛ ابتغاء وجه الله تعالى, يضاعف لهم ثواب ذلك, ولهم فوق ذلك ثواب جزيل, وهو الجنة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 19 )
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرِّقوا بين أحد منهم, أولئك هم الصديقون الذين كمُل تصديقهم بما جاءت به الرسل، اعتقادًا وقولا وعملا، والشهداء عند ربهم لهم ثوابهم الجزيل عند الله, ونورهم العظيم يوم القيامة, والذين كفروا وكذَّبوا بأدلتنا وحججنا أولئك أصحاب الجحيم, فلا أجر لهم, ولا نور.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( 20 )
اعلموا - أيها الناس- أنما الحياة الدنيا لعب ولهو, تلعب بها الأبدان وتلهو بها القلوب, وزينة تتزينون بها, وتفاخر بينكم بمتاعها, وتكاثر بالعدد في الأموال والأولاد, مثلها كمثل مطر أعجب الزُّرَّاع نباته, ثم يهيج هذا النبات فييبس, فتراه مصفرًا بعد خضرته, ثم يكون فُتاتًا يابسًا متهشمًا, وفي الآخرة عذاب شديد للكفار ومغفرة من الله ورضوان لأهل الإيمان. وما الحياة الدنيا لمن عمل لها ناسيًا آخرته إلا متاع الغرور.
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 21 )
سابقوا - أيها الناس- في السعي إلى أسباب المغفرة من التوبة النصوح والابتعاد عن المعاصي؛ لِتُجْزَوْا مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض, وهي مُعَدَّة للذين وحَّدوا الله واتَّبَعوا رسله, ذلك فضل الله الذي يؤتيه مَن يشاء مِن خلقه, فالجنة لا تُنال إلا برحمة الله وفضله, والعمل الصالح. والله ذو الفضل العظيم على عباده المؤمنين.
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ( 22 )
ما أصابكم- أيها الناس- من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم من الأمراض والجوع والأسقام إلا هو مكتوب في اللوح المحفوظ من قبل أن تُخْلَق الخليقة. إن ذلك على الله تعالى يسير.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 )
لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا, ولا تفرحوا بما آتاكم فرحَ بطر وأشر. والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور به على غيره. هؤلاء المتكبرون هم الذين يبخلون بمالهم, ولا ينفقونه في سبيل الله, ويأمرون الناس بالبخل بتحسينه لهم. ومن يتولَّ عن طاعة الله لا يضر إلا نفسه, ولن يضر الله شيئًا, فإن الله هو الغني عن خلقه, الحميد الذي له كل وصف حسن كامل, وفعل جميل يستحق أن يحمد عليه.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 )
لقد أرسلنا رسلنا بالحجج الواضحات, وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع, وأنزلنا الميزان؛ ليتعامل الناس بينهم بالعدل, وأنزلنا لهم الحديد, فيه قوة شديدة, ومنافع للناس متعددة, وليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق من ينصر دينه ورسله بالغيب. إن الله قوي لا يُقْهَر, عزيز لا يغالَب.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 26 )
ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم إلى قومهما, وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب المنزلة, فمِن ذريتهما مهتدٍ إلى الحق, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله.
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 27 )
ثم أتبعنا على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم بالبينات, وقفَّينا بعيسى ابن مريم, وآتيناه الإنجيل, وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه على دينه لينًا وشفقة, فكانوا متوادِّين فيما بينهم, وابتدعوا رهبانية بالغلوِّ في العبادة ما فرضناها عليهم, بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم, قَصْدُهم بذلك رضا الله, فما قاموا بها حق القيام، فآتينا الذين آمنوا منهم بالله ورسله أجرهم حسب إيمانهم, وكثير منهم خارجون عن طاعة الله مكذبون بنيه محمد صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 28 )
يا أيها الذين آمنوا, امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه وآمنوا برسوله, يؤتكم ضعفين من رحمته, ويجعل لكم نورًا تهتدون به, ويغفر لكم ذنوبكم, والله غفور لعباده, رحيم بهم.
لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 29 )
أعطاكم الله تعالى ذلك كله؛ ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يقدرون على شيء مِن فضل الله يكسبونه لأنفسهم أو يمنحونه لغيرهم, وأن الفضل كله بيد الله وحده يؤتيه مَن يشاء من عباده, والله ذو الفضل العظيم على خلقه.